هل تساءلت يومًا لماذا يتصرّف كل شخص بطريقة مختلفة؟
لماذا يغضب البعض بسرعة، بينما يحتفظ آخرون بهدوئهم مهما كانت الظروف؟
ولماذا هناك من يفضّل العزلة وآخرون لا يحتملون الوحدة لحظة؟
الإجابات على هذه الأسئلة شكلت أساس علم الشخصية — أحد أهم فروع علم النفس الحديث.
فالشخصية ليست مجرد “طبع” أو “سلوك”، بل هي مزيج معقد من الأفكار والعواطف والعادات والتجارب،
تكوّن ما نحن عليه اليوم.
وفي هذا المقال سنقوم بجولة شاملة في أبرز نظريات الشخصية في علم النفس،
من فرويد إلى كارل روجرز، لنفهم كيف حاول العلماء تفسير من نكون… ولماذا نحن كذلك.
ما المقصود بالشخصية في علم النفس؟
في أبسط تعريف، الشخصية هي نمط ثابت نسبيًا من التفكير والمشاعر والسلوك
يميز كل فرد عن الآخر.
هي الطريقة التي نتفاعل بها مع أنفسنا ومع الآخرين ومع الحياة.
لكن ما الذي يجعل هذه الشخصية تتكوّن بهذا الشكل تحديدًا؟
هنا اختلف العلماء وظهرت عدة نظريات تفسر “من أين تأتي الشخصية”.
أولًا: النظرية التحليلية – سيغموند فرويد
لا يمكن الحديث عن الشخصية دون ذكر سيغموند فرويد،
الذي يُعتبر الأب المؤسس لعلم النفس التحليلي.
رأى فرويد أن الشخصية تتكوّن من ثلاثة أنظمة رئيسية تعمل معًا:
🧠 محتاج جلسة نفسية أو استشارة متخصصة؟
احجز جلستك الآن مع أخصائيين موقع زاوية نفسية
تواصل معنا مباشرة على واتساب 👇
- الهو (Id): الجزء الغريزي في الإنسان، يسعى للإشباع الفوري دون تفكير.
- الأنا (Ego): الجزء الواعي الذي يوازن بين الرغبات والواقع.
- الأنا الأعلى (Superego): يمثل الضمير والمعايير الأخلاقية.
اعتبر فرويد أن الصراعات بين هذه الأجزاء الثلاثة تشكل سلوك الإنسان.
فمثلًا، عندما تشتهي شيئًا لكنك تمنع نفسك لأنه “غير لائق”،
فأنت في صراع بين الهو والأنا الأعلى، بينما يحاول الأنا التوفيق بينهما.
مراحل تطور الشخصية عند فرويد:
- المرحلة الفمية (من الميلاد حتى 18 شهرًا) — مصدر اللذة هو الفم.
- المرحلة الشرجية (من 1.5 إلى 3 سنوات) — بداية التعلم والسيطرة.
- المرحلة القضيبية (من 3 إلى 6 سنوات) — وعي الطفل بجنسه وأبويه.
- الكمون (6 إلى 12 سنة) — هدوء نسبي ونمو اجتماعي.
- المرحلة التناسلية (المراهقة) — اكتمال الهوية والنضج النفسي.
رغم الانتقادات الكثيرة لفرويد، إلا أن أفكاره فتحت الباب لفهم العقل اللاواعي
ودوره في تشكيل الشخصية والسلوك.
ثانيًا: نظرية السمات – جوردون ألبورت وريموند كاتل
بينما ركّز فرويد على اللاوعي، رأى علماء آخرون أن الشخصية يمكن فهمها من خلال سمات ثابتة يمكن قياسها.
وهنا جاءت نظرية السمات (Trait Theory).
اقترح جوردون ألبورت أن كل إنسان يمتلك مئات السمات النفسية،
لكن بعضها يكون أساسيًا يوجه معظم سلوكنا، مثل “الكرم”، “الانطواء”، أو “القيادية”.
ثم جاء ريموند كاتل فاختصرها إلى 16 سمة فقط باستخدام التحليل الإحصائي،
ثم تطورت النظرية إلى ما يُعرف اليوم بـ نموذج السمات الخمس الكبرى (Big Five)، وهو الأشهر في علم النفس الحديث.
السمات الخمس الكبرى للشخصية:
- الانفتاح على التجربة (Openness): حب الاستكشاف والإبداع.
- الضمير الحي (Conscientiousness): النظام والمسؤولية والانضباط.
- الانبساط (Extraversion): الميل للانخراط الاجتماعي والطاقة العالية.
- القبول (Agreeableness): التعاطف، التعاون، واللطف.
- العصابية (Neuroticism): الميل للقلق أو التوتر.
هذا النموذج يُستخدم اليوم في اختبارات الشخصية العالمية مثل اختبار الخمس سمات (Big Five Test)
وهو من أكثر الأدوات دقة في التقييم النفسي.
ثالثًا: النظرية السلوكية – سكنر وواتسون
تختلف النظرية السلوكية جذريًا عن نظرية فرويد.
فالسلوكيون مثل جون واتسون وبي. ف. سكنر
يرون أن الشخصية ليست شيئًا داخليًا أو غامضًا،
بل هي نتاج مباشر للتعلم والخبرة.
الإنسان في نظرهم يولد صفحة بيضاء،
ويتشكل سلوكه من خلال المكافأة والعقاب والتكرار.
أهم مفاهيم النظرية السلوكية:
- التعزيز الإيجابي: عندما يُكافأ السلوك، يتكرر.
- التعزيز السلبي: إزالة شيء مزعج بعد السلوك المرغوب.
- العقاب: تقليل السلوك غير المرغوب من خلال نتيجة غير محببة.
وبناءً على ذلك، يمكن “تشكيل” شخصية الطفل من خلال نمط الثواب والعقاب الذي يتعرض له.
فطفل يُكافأ باستمرار على التنظيم، سيصبح منظمًا كبالغ.
ورغم بساطة هذه النظرية، إلا أنها كانت أساسًا مهمًا لتقنيات تعديل السلوك
التي تُستخدم في التربية والعلاج النفسي حتى اليوم.
رابعًا: النظرية الإنسانية – كارل روجرز وأبراهام ماسلو
ظهرت النظرية الإنسانية كرد فعل على النظرتين التشاؤمية (التحليلية) والآلية (السلوكية).
رأت أن الإنسان ليس مجرد صراع داخلي أو آلة مبرمجة،
بل كائن واعٍ يسعى للنمو وتحقيق ذاته.
أهم أفكار النظرية الإنسانية:
- لكل إنسان دافع فطري نحو التحقق الذاتي (Self-Actualization).
- الشخصية تنمو عندما يتاح للإنسان التعبير عن ذاته بحرية دون خوف من الرفض.
- العلاقات الإنسانية القائمة على التقبل غير المشروط هي مفتاح النمو النفسي السليم.
أبرز روادها:
- أبراهام ماسلو: وضع هرم الاحتياجات الإنسانية الشهير الذي يبدأ من الحاجات الجسدية وينتهي بالتحقق الذاتي.
- كارل روجرز: اعتبر أن “الذات” تتكون من تجربتين: الذات الواقعية والذات المثالية،
وكلما اقتربتا من بعض، زاد التوازن النفسي.
المدرسة الإنسانية ترى أن كل إنسان قادر على التغيير والنمو،
إذا توفرت له بيئة داعمة وغير ناقدة.
إنها أكثر النظريات دفئًا وتفاؤلًا في علم النفس الحديث.
خامسًا: النظرية المعرفية – ألبرت بندورا وكيلي
مع تطور علم النفس في منتصف القرن العشرين،
ظهر اتجاه جديد ركّز على طريقة التفكير أكثر من السلوك أو الغرائز.
هذه هي النظرية المعرفية.
يرى علماء هذا الاتجاه أن الشخصية تتكوّن من العمليات العقلية مثل التفكير، التفسير، والتوقع.
أهم مفاهيم النظرية المعرفية:
- التعلم بالملاحظة (Observational Learning): طرحه ألبرت بندورا في نظريته “التعلم الاجتماعي”،
حيث يتعلم الإنسان من خلال مراقبة الآخرين لا التجربة فقط. - الضبط الذاتي (Self-Regulation): الإنسان قادر على مراقبة سلوكه وتعديله بنفسه.
- الكفاءة الذاتية (Self-Efficacy): إيمان الفرد بقدرته على النجاح يؤثر على أدائه وسلوكه.
تُعتبر هذه النظرية جسرًا بين السلوك والتفكير،
فهي ترى الإنسان ككائن يملك حرية الوعي والتأمل في سلوكه،
وليس مجرد متلقٍ للمثيرات الخارجية.
سادسًا: نظرية السمات الخمس الحديثة (Big Five Model)
هذه النظرية تُعتبر اليوم الأكثر استخدامًا علميًا في تقييم الشخصية.
هي تطوير حديث لنظرية السمات القديمة، لكنها أكثر دقة وواقعية.
📰 موضوعات تهمك
دواء لعلاج التوتر: هل الحل في الحبوب أم في فهم الجذر النفسي
تحليل شخصية محبي الليل: لماذا يزدهر بعض الناس حين ينام العالمتقوم على أن كل شخصية يمكن تحليلها من خلال خمسة أبعاد أساسية:
- الانفتاح (Openness): الخيال، الفضول، تقبّل الأفكار الجديدة.
- الضمير الحي (Conscientiousness): التنظيم والانضباط والمسؤولية.
- الانبساط (Extraversion): الاجتماعية، الحماس، والطاقة.
- القبول (Agreeableness): اللطف، الثقة، والتعاون.
- العصابية (Neuroticism): الحساسية العاطفية والتوتر.
ويُعتقد أن هذه السمات تمتد على طيف،
أي أن كل إنسان يملك منها درجات مختلفة،
وليست هناك شخصية “أفضل” من أخرى.
سابعًا: النظرية البيولوجية – آيزنك وكلونينجر
ركزت هذه النظرية على أن الشخصية ليست فقط نتاج البيئة،
بل أيضًا نتاج العوامل الوراثية والكيمياء العصبية.
هانز آيزنك اقترح أن هناك ثلاثة أبعاد رئيسية للشخصية:
- الانبساط مقابل الانطواء.
- الاستقرار مقابل العصابية.
- الاندفاع مقابل السيطرة.
واستند في نظريته إلى أن الفروق في نشاط الجهاز العصبي (وخاصة القشرة الدماغية)
هي ما يحدد درجة الانطواء أو الانبساط.
بينما كلونينجر أضاف فكرة أن النواقل العصبية مثل السيروتونين والدوبامين
تلعب دورًا في تكوين السمات الشخصية.
ثامنًا: النظرية الاجتماعية الثقافية – إريك فروم
أضاف إريك فروم بعدًا جديدًا لفهم الشخصية،
إذ رأى أنها لا تتكون في فراغ،
بل تتأثر بالثقافة والمجتمع الذي يعيش فيه الفرد.
فالفرد في مجتمع حر ديمقراطي يختلف في تكوينه النفسي عن شخص يعيش في بيئة استبدادية.
وبالتالي، تُشكّل القيم الاجتماعية وأساليب التنشئة ملامح الشخصية أكثر مما نتصور.
كما ركز فروم على مفهوم الحرية الداخلية،
معتبرًا أن الإنسان لا يكون متوازنًا إلا عندما يحقق توازنًا بين الفردية والانتماء.
تاسعًا: النظرية الوجودية – فيكتور فرانكل
هذه النظرية تُعد من أعمق النظريات في علم النفس الإنساني،
وقد تأسست على يد الطبيب النفسي فيكتور فرانكل،
الذي عاش تجربة معسكرات الاعتقال في الحرب العالمية الثانية.
يرى فرانكل أن جوهر الشخصية يكمن في السعي نحو المعنى.
حتى في أقسى الظروف، يمكن للإنسان أن يحتفظ بإنسانيته إذا وجد معنى للحياة.
الفراغ الوجودي، في نظره، هو سبب كثير من الاضطرابات النفسية الحديثة،
وحين يفقد الإنسان المعنى، يفقد بوصلته الداخلية.
عاشرًا: أيّ النظريات تفسر شخصيتنا اليوم؟
لا توجد نظرية واحدة تشرح الشخصية بالكامل.
فكل نظرية كشفت جانبًا من الحقيقة:
- فرويد أضاء لنا عمق اللاوعي.
- السلوكيون علمونا كيف نتعلم.
- الإنسانيون ذكرونا بكرامة الإنسان وحريته.
- المعرفيون أوضحوا قوة التفكير في تشكيل السلوك.
- البيولوجيون ربطوا الشخصية بالدماغ والجينات.
أما علم النفس الحديث، فقد أصبح تكامليًا —
يجمع بين البيولوجيا، والتربية، والعلاقات، والتفكير، والتجارب الشخصية
لفهم الإنسان كوحدة متكاملة من العقل والعاطفة والجسد.
كيف تستفيد من فهم نظريات الشخصية في حياتك اليومية؟
معرفة نوع شخصيتك لا تعني أن تحبس نفسك داخل تصنيف،
بل أن تفهم كيف تفكر، ولماذا تتصرف بهذا الشكل،
وكيف يمكنك تطوير نقاط قوتك والتعامل مع نقاط ضعفك بوعي.
- إذا كنت سريع الغضب، فربما لديك طاقة داخلية تحتاج توجيهًا.
- إذا كنت انطوائيًا، فربما تحتاج إلى وقت للراحة الذهنية لا إلى تغيير نفسك.
- إذا كنت حالمًا، فربما يكون خيالك مصدر قوتك لا ضعفك.
فهم الشخصية لا يهدف إلى التقييم، بل إلى الوعي الذاتي.
حين تفهم نفسك بعمق، تصبح أكثر تسامحًا مع الآخرين أيضًا،
لأنك تدرك أن كل إنسان يسير في رحلة مختلفة لتكوين ذاته.
خلاصة وتأمل نفسي
الشخصية ليست قالبًا ثابتًا، بل كائن حي يتطور مع التجربة.
قد تبدأ حياتك بخوف، وتنضج إلى شجاعة.
قد تكون اليوم صامتًا، وتتعلم غدًا كيف تعبّر بثقة.
هذا يعني أن الشخصية ليست قدرًا، بل مسارًا من الوعي.
في النهاية، علم النفس لا يحاول أن يضعنا في صناديق،
بل يساعدنا أن نرى أنفسنا كما نحن —
بكل تناقضاتنا، نقاط ضعفنا، وجمالنا الإنساني.
💭 تأمل ختامي: حين تفهم شخصيتك، لا تعذر نفسك فقط… بل تبدأ حقًا في حبها.
🧠 زاوية نفسية — نساعدك تشوف حياتك من زاوية أهدأ وأعمق.
تابع أحدث المقالات النفسية والنصائح الحياتية على موقعنا دائمًا 💙
🧠 محتاج جلسة نفسية أو استشارة متخصصة؟
احجز جلستك الآن مع أخصائيين موقع زاوية نفسية
تواصل معنا مباشرة على واتساب 👇