يُقال إنّ النار تلتهم الأخشاب الجيدة أسرع من الفاسدة،
وهكذا تمامًا يحدث في أماكن العمل:
الذين يضيئون المكان بضميرهم، هم أول من يذوبون فيه.
الذين يحملون كل شيء على عاتقهم باسم “الإخلاص”،
هم أول من يسقطون بصمت تحت اسم “الاحتراق”.
السؤال الذي يفتح هذا الجرح الكبير هو:
لماذا يحترق الموظف المثالي أولًا؟
لماذا الذين يعطون أكثر هم أول من ينهارون؟
ولماذا لا يرى أحد ذلك إلا بعد فوات الأوان؟
🌙 البداية: حين يصبح الضمير عبئًا
الموظف المثالي هو الشخص الذي يعمل كأن الشركة بيته،
يصل قبل الجميع، ويغادر بعدهم،
يتعامل مع الأخطاء وكأنها مسؤولياته الشخصية،
ويحمل في داخله شعورًا دائمًا بالالتزام حتى لو لم يُطلب منه شيء.
هو الذي يُراهن عليه المدير دائمًا وقت الأزمات،
والذي يُنقذ الموقف في اللحظة الأخيرة،
ويتحمّل ضغط زملائه بصمت، لأنه “الأكثر حرصًا والأقدر على التحمل.”
🧠 محتاج جلسة نفسية أو استشارة متخصصة؟
احجز جلستك الآن مع أخصائيين موقع زاوية نفسية
تواصل معنا مباشرة على واتساب 👇
لكن المشكلة أن هذا الضمير الزائد عن الحد لا يأتي بلا ثمن.
فمع الوقت، يبدأ هذا الموظف يشعر أن العالم كله يستند عليه،
وأنه لا يستطيع أن يتوقف، لأن توقفه يعني أن كل شيء سينهار.
وهنا تبدأ أول شرارة من نار الاحتراق النفسي.
💭 مفهوم الاحتراق النفسي: الموت البطيء تحت قناع الكفاءة
الاحتراق النفسي ليس تعبًا جسديًا فقط،
بل هو إرهاق روحي عميق،
حالة يذوب فيها الإنسان وهو يحاول أن يظل قويًا.
يعرفه علم النفس بأنه:
“حالة من الإنهاك العاطفي والجسدي والعقلي،
ناتجة عن التوتر المزمن المرتبط بالعمل.”
يبدأ الاحتراق بخطوات خفية:
-
إرهاق بسيط يمكن احتماله،
-
فقدان الحماس التدريجي،
-
شعور داخلي أن ما تفعله لم يعد يُحدث فرقًا،
-
ثم يأتي الإحساس الأكثر خطورة: “أنا لا أُرى.”
كل ذلك يحدث بينما يراك الجميع في الخارج ناجحًا، نشيطًا، متفانيًا.
أنت لا تبدو منهارًا… فقط فارغًا من الداخل.
🌧️ الموظف المثالي: الضحية المثالية أيضًا
الاحتراق النفسي لا يصيب المتكاسلين،
بل يختار دائمًا الأكثر التزامًا، والأكثر ضميرًا، والأكثر عطاءً.
لماذا؟
لأن هؤلاء الأشخاص يفتقدون شيئًا مهمًا جدًا: الحدود.
لا يعرفون أين تنتهي مسؤوليتهم وتبدأ مسؤولية الآخرين.
يعتبرون أن الاعتذار ضعف،
والتقصير جريمة،
والراحة خيانة لضميرهم.
هم لا يعرفون أن يقولوا “لا”،
ويعتقدون أن الصبر هو الحل الوحيد دائمًا.
لكن الحقيقة أن من لا يضع حدودًا لنفسه، سيتآكل ببطء.
فالمثالية لا تحمي النفس، بل تستهلكها.
🌿 خلف الكواليس: ماذا يشعر الموظف المثالي فعلًا؟
من الخارج، يبدو ثابتًا وهادئًا،
لكن في الداخل يعيش حربًا صامتة.
يخاف أن يخيب ظن أحد،
يخاف أن يُنتقد،
يخاف أن يُفهم خطأ،
يخاف أن يُقال عنه إنه لم يعد كما كان.
يعمل أكثر مما يجب،
يفكر في العمل حتى بعد أن يغلق الحاسوب،
ويحمل على عاتقه أخطاء الفريق كله.
في الليل، حين يهدأ كل شيء،
يبدأ صوته الداخلي يهمس:
“لماذا لا يراني أحد؟”
“لماذا كل هذا الجهد لا يُقدّر؟”
“لماذا كلما أعطيت أكثر، طلبوا أكثر؟”
لكنّه في اليوم التالي يعود كالمعتاد:
يبتسم، ينفّذ، يصمت.
لأن “هكذا يفعل المثاليون.”
💔 النظام الذي يستنزف الأفضل فينا
في كثير من بيئات العمل، لا يُكافأ الجهد بقدر ما يُستغل.
فالموظف المثالي يُعتبر “كنزًا” يمكن تحميله كل المهام الصعبة،
لأن “هو مش بيرفض.”
تُسند إليه أعمال الآخرين،
ولا يُشكر إلا بعبارة عابرة: “نحن نعتمد عليك دائمًا.”
ومع الوقت،
يتحول هذا الاعتماد إلى استنزاف منظم،
ويصبح النجاح في المؤسسة قائمًا على تعب شخص واحد فقط.
وحين يبدأ هذا الشخص في الانطفاء،
يتفاجأ الجميع،
وكأنهم لم يروا ناره تضعف يومًا بعد يوم.
🌫️ المثالية المفرطة… وجه أنيق للإنهاك النفسي
يظن الناس أن المثالية صفة جميلة.
لكن في علم النفس، المثالية المفرطة (Perfectionism)
هي أحد أهم أسباب القلق والاكتئاب والاحتراق.
فالمثالي لا يقبل بالخطأ،
ولا يحتمل الفشل،
ولا يعرف أن يغفر لنفسه.
يريد أن يكون في كل مرة الأفضل،
وفي كل مشروع الأكفأ،
وفي كل تقييم الأعلى.
📰 موضوعات تهمك
دواء لعلاج التوتر: هل الحل في الحبوب أم في فهم الجذر النفسي
نظريات الشخصية في علم النفس: كيف تشكّلت ملامحنا النفسية عبر الزمن؟لكن الكمال غير ممكن،
والمثالي يعيش طوال الوقت في صراع مع الواقع،
يحاول أن يصل إلى شيء لا وجود له.
هو لا يدرك أنه لا يحتاج إلى أن يكون “الأفضل”،
بل أن يكون “كافيًا” فقط.
🕯️ بين التقدير والاستغلال خيط رفيع
الاحتراق لا يبدأ حين يتعب الجسد،
بل حين يتعب القلب من العطاء دون مقابل.
حين يشعر الموظف أن كل مجهوده “واجب”، لا “قيمة”.
الفرق بين التقدير والاستغلال بسيط جدًا:
الأول يجعلك تعمل بحب،
والثاني يجعلك تعمل وأنت تنزف بصمت.
الإنسان لا يحتاج دائمًا إلى ترقية أو مكافأة،
بل إلى كلمة صادقة تقول: “نراك، نقدر تعبك.”
💬 عندما تصبح “المثالية” طريقًا للاحتراق
الإفراط في تحمل المسؤولية ليس فضيلة.
أن تعمل فوق طاقتك باستمرار ليس إخلاصًا.
أن تسكت عن الظلم باسم “المصلحة العامة” ليس نضجًا.
أحيانًا يكون الدفاع عن نفسك جزءًا من دفاعك عن إنسانيتك.
أن تقول “لا” حين يُطلب منك ما يفوق قدرتك،
أن تعتذر حين تُرهق،
أن تتوقف لتعيد شحنك دون شعور بالذنب.
الموظف المثالي يظن أن العالم سينهار لو توقف،
لكن الحقيقة أن العالم سيستمر،
وسيبقى هو وحده من يسقط إن لم يتعلم أن يحمي نفسه.
🌿 من الإنهاك إلى الوعي
الخطوة الأولى للخروج من دائرة الاحتراق هي الوعي.
أن تدرك أنك مرهق،
أن تعترف أنك لست بخير،
أن تفهم أن العطاء بلا حدود ليس بطولة.
الوعي لا يعني الاستقالة من العمل،
بل الاستقالة من الإنهاك غير الواعي.
ابدأ بوضع الحدود.
تعلم أن توزّع المهام، أن تقول لا، أن تفصل بين العمل والذات.
أعد تعريف نفسك خارج دورك الوظيفي.
واسمح لنفسك أن تكون إنسانًا قبل أن تكون موظفًا.
🌸 ما الذي يحتاجه الموظف المثالي فعلاً؟
ليس دورات في “تطوير الذات”،
ولا محاضرات في “رفع الإنتاجية”.
هو يحتاج ببساطة إلى:
-
بيئة عمل آمنة نفسيًا لا تساوي القيمة البشرية بالإنجاز فقط.
-
مدير يسمع لا يطلب فقط.
-
فريق يتشارك لا يُحمّل كل شيء على شخص واحد.
-
نظام يسمح بالراحة دون ذنب.
-
وعي داخلي بأن الراحة ليست خيانة.
💡 كيف تحمي نفسك من الاحتراق النفسي؟
-
توقف قبل أن تُرغم على التوقف: راقب إشارات جسدك ونفسك. الإرهاق ليس علامة قوة.
-
ضع حدودًا واضحة: لا تقبل المهام الإضافية على حساب صحتك.
-
افصل بين العمل والحياة: أغلق بريدك بعد الدوام، لا تتحدث عن العمل على مائدة الطعام.
-
اعترف بإنسانيتك: المجهود لا يقاس بعدد الساعات، بل بسلامك النفسي بعد كل يوم.
-
اطلب المساعدة: لا تنتظر الانهيار لتذهب إلى مختص نفسي أو مرشد وظيفي.
-
استعد شغفك ببطء: تذكّر لماذا بدأت العمل أصلًا، وأعد اكتشاف الجانب الإنساني منه.
🌤️ في النهاية:
الموظف المثالي ليس ضحية ضعفه،
بل ضحية إحساسه العميق بالمسؤولية.
لكنه ينسى أن الضمير لا يجب أن يتحول إلى سلاح ضد النفس.
من يحب عمله بصدق لا يجب أن يُعاقب بالتعب،
ومن يعطي كثيرًا يستحق أن يُحتضن لا أن يُستهلك.
في زاوية نفسية نؤمن أن المؤسسات لا تنهض بالأنظمة،
بل بالقلوب التي تؤمن بما تفعل.
لكن هذه القلوب تحتاج أيضًا إلى أن تُحافظ على نفسها.
لأن النار التي تضيء الطريق للآخرين،
تحتاج إلى من يحميها من أن تنطفئ.
العمل قيمة، والمثالية جمال،
لكن دون وعي وحدود، تتحول إلى احتراق بطيء تحت شعار “الإخلاص”.
أحب عملك، نعم…
لكن أحب نفسك أولًا،
لأنها المصدر الذي ينبع منه كل عطاء حقيقي.
🧠 زاوية نفسية — نساعدك تشوف حياتك من زاوية أهدأ وأعمق.
تابع أحدث المقالات النفسية والنصائح الحياتية على موقعنا دائمًا 💙
🧠 محتاج جلسة نفسية أو استشارة متخصصة؟
احجز جلستك الآن مع أخصائيين موقع زاوية نفسية
تواصل معنا مباشرة على واتساب 👇